ضوابط العلم
0
يحدثنا بليل عبدالكريم عن ضوابط العلم فيقول:
من خلال التأمل في القرآن الكريم، نلاحظ عنايةً بضبط العلم وآلياته، في جانبيه الأخلاقي والعلمي؛ ذلك أن الانضباط الخُلقي في العلم لا يكفي وحده؛ فلا يُقبَل أن يكون البحث موثوقَ النقل من غير اكتمال أجزائه، كما أن الانضباط العلمي في مسألة التفكير لا يكفي؛ فلا يقبل عرض قضية مكتملة، وهي تتعارض مع الفضيلة والأخلاق.
أ. الموضوعية: وذلك بأن يكون التنظير العلمي والقوانين مبنيةً على دراسات عميقة، مستمدة من أدلة قطعية، فيتخلى عن عواطفه وانفعالاته، خاصة في الأمور الاجتهادية القابلة للصواب والخطأ، ويتحرَّى العدل في الأحكام، وهي على هذا "معيار أساسي من معايير البحث، مبنيٌّ على الصدق، والعلم، والأمانة، والبعد عن الأهواء الشخصية".(1)
ونجد هذا الخلق في آيات عدة، منها: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ سورة الأنعام: 152
كما يتبين في قوله - تعالى -:﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ سورة الروم:7، فالكافرُ رغم عزوفه عن الإيمان، واتِّباعِه للباطل، وعصيانِه لربه، فقد ذكر الله - تعالى - أنه يعلم شيئًا من الدنيا ويدرك أمورها، فخصَّه بصفة العلم، وإن كان لأمور الدنيا فقط، ووصفه بالغفلة، لا الجهل لأمور الآخرة، فكان عدلاً منه - تعالى - وقاعدة في نقد الآخر وتقييمه في مسألةٍ ما، بأن يراعى ما له وما عليه، فلا تكون النظرة جانبية مائلة نحو السالب فقط؛ ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ سورة المائدة: 8
غير أنه ينبَّه على أن معايير تقييم الأفكار والنظريات العلمية، يجب ألاَّ تكون مناقضة للمعايير الربانية، فلا يسلم أن يوصف من يتمسَّكُ بمعتقده، المبني على أدلة قطعية واضحة الدلالة، أنه متعصب، وغير متجرد من السوابق والشوائب، فشخصية العاقل لا تكون مفكرة دون علم سابق وقواعد ثابتة لمنهج التفكير، فإن لم يكن كذلك، فهو عامي لا مبادئ له، ولا علم مقعد يركن إليه.
فقد تحولتْ أصول الدين إلى مبادئَ قابلةٍ للأخذ والعطاء عند البعض، تحت مزاعم الموضوعية والتجرد، فقد " أصبح الكثير منهم يعرِّف الموضوعية بأنها: تجرُّد الباحث من كل اعتبار قيمي وعقدي"(2)، وهذا ينافي ما نسعى إليه من البحث، وهو البلوغ بجميع العلوم لتحقيق الغاية الوجودية، وهي عبادة الله وتوحيده، فكيف يكون الباحث موضوعيًّا، وهو يكفر بالحقائق المطلقة المتعلِّقة بالخالق والمخلوق، والدنيا والآخرة؟! وكيف تكون المعايير الإلهية غيرَ علمية ولا موضوعية، والبشرية هي الموضوعية الدقيقة؟!
فالعقيدة هي المبدأ قبل الدخول في أي بحث؛ لأن العلم في القرآن الكريم وسيلةٌ وليس غايةً، هدفُه ترسيخ عقيدة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ سورة آل عمران: 19، وكلُّ شيء في الوجود خاضعٌ لما سَنَّه الله - تعالى - وشرعه، والاستخلاف في الأرض يكون لإعمارها على مراد الله - سبحانه - ولو اتَّبع الحقُّ أهواءَ الناس لفسدتِ السمواتُ والأرض.
من ثوابت الموضوعية التثبُّتُ قبل إصدار الحكم، وقد ركَّز القرآن على هذا الجانب؛ حتى لا يقع المسلم في سلسلةٍ من الأخطاء نتيجةَ الفهم الخاطئ(3)، كما في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين﴾ سورة الحجرات: 6، فكل أحكام الشريعة قائمةٌ على التثبت من الدليل، ومن وجه استدلاله؛ فالصلاة لا تقوم إلا بالتأكُّد من دخول وقتها، والحدود لا توقع إلا باليقين من الجُرم.
ب. الأمانة العلمية: وهذه القاعدة مبنيَّةٌ على حفظ حقوق الناس، سواء المادية أو المعرفية، وذاك في قوله - تعالى -: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ سورة الشعراء: 183، فالأمانة العلمية من آكد الأمور في النقل، وذاك بالاعتراف بفضل من أخذ عنه، فيقول القول عن قائله مثبتًا له السبق؛ لأنه "إذا نقل الإنسان فكرةً عن الغير، أو استفاد علمًا من الغير، لا بد أن يثبت هذه الفكرةَ لصاحبها.
وإذا استشهد الباحث بكلام عن الغير، توجب عليه أن يوثِّق هذا النقل، فيذكر اسم المؤلف أو القائل، والكتاب الذي نقل عنه، ورقم الجزء، ودار الطباعة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ حتى يتضح المنقول، ويسهل الرجوع إلى مصدره لأي قارئ" (4)، وذاك أن "من أمانة العلم أن يُنسَبَ القول لمن قاله، والفكرةُ لصاحبها، ولا يستفيد من الغير ثم يسند الفضلَ إلى نفسه؛ فإن هذا لونٌ من السرقة، وضربٌ من الغش والتزوير" (5)
وهذه الأمانة العلمية تُضم إلى خُلقِ الصدق، الذي يعكس ما في أعماق الشخصية المحترمة لنفسها والمحترمة لغيرها، وآيات الصدق عديدة، منها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ سورة التوبة: 119.
ج. أدب الخلاف: القرآن الكريم أمَرَ بالدعوة للحق، والهداية الربانية، لكن ركَّز على الأدب في الدعوة؛ بأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة؛﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ سورة النحل: 125، والجدال بالتي هي أحسن يكون بترك الفظاظة في الخطاب، والتي لو استعملها خيرُ الخلق مع خير أصحابه، لانفضوا من حوله؛ ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك﴾ سورة آل عمران: 159، فكيف مع من هو لا يقارن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا من هم أدنى من خير القرون؟!
فالمناظرات يجب أن تكون لقصد الخير، وإبلاغِ الحق؛ فلا يصح فيها استفزازُ الخَصم، والطعن في النيَّات، وتسفيهُ الأحلام؛ بل من أخلاقها الإشادةُ بما للخصم من فضلٍ وعلم، والتلطُّفُ واللين في القول، ومجانبةُ خدش الكرامة والنبز بما لا يرتضَى؛ فقد ورد في القرآن النهيُ عن الكبر وإثارة الآخرين: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ سورة الإسراء: 53
والمؤمن دائمًا متَّصفٌ بطِيب القول، وسلامة اللسان، فإيصال الحق يستدعي أولاً تهيئة القلوب لقَبول ذاك الحق، ومعلوم أن كسب القلوب خيرٌ من كسب المواقف، كذا من الآداب عدمُ هتك أستار الخصوم حالَ الجدال، والترفق بهم، خاصة إن دلَّتِ القرائن على قربهم من الحق، ودنوِّهم من الحقيقة؛ ليُترك لهم حَظٌّ للرجعة إلى الجادة، ومراجعة النفس.
والمؤمن دائمًا متَّصفٌ بطِيب القول، وسلامة اللسان، فإيصال الحق يستدعي أولاً تهيئة القلوب لقَبول ذاك الحق، ومعلوم أن كسب القلوب خيرٌ من كسب المواقف، كذا من الآداب عدمُ هتك أستار الخصوم حالَ الجدال، والترفق بهم، خاصة إن دلَّتِ القرائن على قربهم من الحق، ودنوِّهم من الحقيقة؛ ليُترك لهم حَظٌّ للرجعة إلى الجادة، ومراجعة النفس.
د. الدليل قبل التنظير والتقعيد: فوضوح الرؤى والأحكام، واتساق المعلومات لا يكفي، ما لم يكن الأساس المستند إليه صحيحًا؛ لذا كان المنهج القرآني قائمًا على المطالبة بالدليل أولاً على صحة أيِّ ادعاء، وسماتُ أهل الحق تتبُّعُ الدليل ثم الاعتقاد، وسمات أهل الباطل الاعتقاد المبنيّ على ما تشتهي الأهواء، أو ميراث الآباء، ثم البحث عن الدليل؛ لصبغ تلك السوالف بالرداء الشرعي العلمي، وذاك إنما هو التماس لمخرج من مواجهة الصواب والحقيقة، لا قصدًا نحو الحق والهداية.
والدليل قد يكون نقليًّا، وقد يكون عقليًّا أو حسيًّا، ولكل مسألة ما يناسبها من الأدلة ومن المسالك، وما يصلح في علمٍ لا يصلح في غيره لزومًا.
نجد صيغ المطالبة بالدليل في القرآن متنوعة، منها: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ سورة الأنعام: 148، فكان قولهم قول الجبرية، فردَّ الله - عز وجل - عليهم قولهم: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾سورة الأنعام: 148
وللدليل مسمياتٌ عدة في القرآن، منها: العلم، وأثارة من علم - كما سلف - ومنها الكتاب: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ سورة الأحقاف: 4
ه. العناية بلغة العلم: ويراد بهذا فهم مصطلحات العلم المتخصص فيه، والعناية بالمصطلحات مهمة؛ لأثرها النفسي على العقول والقلوب.
فالمصطلحات نشأتْ لحاجة الناس إليها، ثم تطورتْ حتى صارت عاملاً مفيدًا وخطيرًا في التأثير في فهم الناس؛ فهي مفاتيحُ للعلوم، ولها تأثيرٌ سلبًا وإيجابًا في العلوم والسلوك، وهي وسيلة لتركيب المعاني الظاهرة والباطنة في مصطلح، باشتماله على أفكار عدة، فيوجه العقل إلى معنى يراد منه من قبل.
فالمصطلح يجعل العقل لا يتوجَّه إلى الفكر إلا على ما جُعل عليه، واتفق عليه، وما تواضع أهلُه عليه؛ فعدمُ ضبطه يؤدي إلى فوضى فكرية، وعدمُ فهمه يتولَّد عنه اضطرابٌ في التصور، وربما يفسر البعض مصطلحًا ما على غير ما تواضع عليه أهلُه، فإذا شاع تشعبتْ معانيه، فيفتقد خصوصيتَه العلمية، وقيمته اللُّغوية.
فالمصطلح يجعل العقل لا يتوجَّه إلى الفكر إلا على ما جُعل عليه، واتفق عليه، وما تواضع أهلُه عليه؛ فعدمُ ضبطه يؤدي إلى فوضى فكرية، وعدمُ فهمه يتولَّد عنه اضطرابٌ في التصور، وربما يفسر البعض مصطلحًا ما على غير ما تواضع عليه أهلُه، فإذا شاع تشعبتْ معانيه، فيفتقد خصوصيتَه العلمية، وقيمته اللُّغوية.
فلكل أهل علمٍ لغتُهم، وقد عُني المسلمون بفن المصطلح، فجعلوه علمًا خاصًّا، وهو يبحث كثيرًا في اللسانيات، وفقه اللغة، وعلم الدلالة؛ أي: علم يبحث بين المفاهيم العلمية والمصطلحات اللغوية التي تعبر عنها
و. تناسب القدرات المعرفية مع مجال البحث: فأدوات العلم لدى الإنسان لها قدراتٌ محدودة، ومجالاتها منتهية؛ لذا كان للسمع فاصلٌ لا تدرك فيه الأصوات، وللعين مجال لا تبصر فيه الصور، وللعقل حدود لا يعيها.
فمن ضوابط العلم أن لا يبحث الإنسانُ فيما لا طاقة له به؛ لأن ذاك من إضاعة الوقت، وإهدار الجهد، فكان توجيه القرآن إلى ما فيه فائدة الناس، في حالهم ومآلهم، وما هو مسخَّر لهم حسًّا وعقلاً، ونهاهم عن الخوض فيما لا علم لهم به، وما لا يترتَّب عنه عملٌ مفيد لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وفيما تقصر عقولهم عن إدراكه، فكانت الأجوبة عن مسائل الناس تراعي حاجياتِهم؛ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف: 187.
للاستزادة رابط الموضوع :
المراجع :
1. "الموضوعية في العلوم التربوية"، عبدالرحمن صالح، دار المنار: جدة، ط(1)، 1407، ص6.
2. "الموضوعية في العلوم الطبيعية"، حمدان الصوفي، ص أ.
5. "الرسول والعلم"، يوسف القرضاوي، دار الصحوة: القاهرة، دت، ص 63